jueves, 6 de octubre de 2011

الخروف المستفحل

الخروف المستفحل


الدكتور جاسم العبودي
على بعد غير بعيد من مزرعة أبي، كان شيخ وأبناؤه قانعين بما قسم لهم الباري من أرض ودواب؛ ورثوها عن أجدادهم. وجلّ ما نعلمه عنهم أنهم تجنبوا شرّ العباد، فعاشوا كأخيارٍ في البلاد. وبقدرة قادر، في يوم وليلة، اجتاحتهم شرذمة من الأغراب، من رعاة البقر والأغنام والدواب..
وكان لهم خروف قطني الكرش، أشهب الأطراف، أسود الرأس، وبين الحين والآخر، رغم بعد المسافات، كان يغيرُ على مزرعتنا، يصولُ ويجول فيها كما لو كانت ملكا لأبيه، أو أنه ورثها أباً عن جدٍّ..
وقد بنى أبي عدة مداخن تشبه الصوامع.. وكنّا لا نملك سوى بندقتين. ونحن قِلّة لا نتعدّى فخذ عشيرة، وهم شتاتٌ كثرٌ تسلحلوا حتى أنيابهم بالأسلحة والذخيرة..
وكلما جمعتُ أوصال شجاعتي وحاولت متجرئاً الإعتراض على سادته رعاة البقر، زعموا أن مداخنَنا - وهي لحرق التبن مساء لطرد الحرمس والناموس عنّا قبل ماشيتنا - وأسلحتَنا - وهي بندقية صيد وأخرى لقدمها كثيراً ما كنّا نردّدُ أنها "من زمن العِصْمَلِّي" (أي من زمن العهد العثماني)، تعتبر تهديداً لأمنهم القومي، ومصالح عبيدهم. وأن مياه العين التي في مزرعتنا كانت قبل آلاف السنين متجمعة في أرضهم، ثم انحدرت إلى مزرعتنا بفعل الرياح القوية، لذا فإنهم متشبثون بحصتهم فيها.
لذلك كنت أغض البصر - إمتثالا للأمر السيادي "ارفع لسانك عن خالد" - عما يعيث خروفهم في مزرعتنا من اضطراب وتدخّل، ولا أناديه إلا بأفخم الألقاب. ترى ألا أستحقُّ أن أمنح شهادة فخرية من إحدى الجامعات أو الأحزاب أو جمعيات الرفق بالحيوان كما يفعل لكثير من حكام خلق الله ؟.
وعبارة - لمن لا يتذكر قصتها تاريخياً - "ارفعْ لسانك" بمعنى صَهْ أو أغلق فمك، هي أمر سيادي يدخل في خانة الرقابة. إنه حكم بالصمت على المعارضين. ودفاتر التاريخ العربي مليئة بصور قمع المعارضة، أو تكميم أفواه المعارضة. وقد لخصها شقاوة البيت الأبيض؛ بوش في 18 مايو 2008 حين قال: إن صيغة الحكم التي تقوم في المنطقة العربية على "حاكم واحد في السلطة ومعارضة في السجن". تُرى ... ألا من الواجب أن يربي الحكام شعوبهم على أدب المعارضة، وتطبيقها، إن أرادوا خدمة شعوبهم حقاً ؟..
والحقيقة أني لم أناد هذا الخروف المتوحش قطُّ إلا بـ"أبو القرن الوحيد"، بدلا من "أبو القرن المكسور" إكراما لجنسه ورأفة بمشاعره المرهفة، واحتراماً للمواثيق الدولية مع أسياده (بيني وبينك أخوك مجبرٌ لا بطل)، واستناداً لسطوة المجاملات للسلطة (طبعاً سلطة الأقوى)، وليس من منظور القانون الذي يُفترض أن يطبق على كل خلق الله بالتساوي، وإتباعاً للغة العصر.. لغة الحوار والتفاوض، من دون اللجوء أولاً إلى استخدام المفاعل النعلوي، فَتتهمُ بالإرهاب والتطرف..
وإذا أحدكم يتحدّاني، فيقول: إنّك خَطآن، ولا يجبُ مداهنة أصحاب السلطة، فأنا معه قلباً وقالباً ... ولا أنصح بذلك حتى لو كلَّف غالياً ... لكن عليه أن يعترض على مقولتهم "لا صداقة دائمة بل مصلحة حاكمة"، وعلى مصائب التاريخ العربي، وها هو شاعرهم العظيم المتنبي، يجسد هذه الحقيقة ويستنكرها، حين يهجو كافوراً:
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ       =       وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا
وَأسْوَدُ مِشْفَرُهُ نِصْفُهُ          =         يُقَالُ لَهُ أنْتَ بَدْرُ الدّجَى
والحكاية وما فيها أن شيخ الخرفان هذا قد تحداه خروف فتى لنا، حين تجاوز الخط - لا أدري الأصفر أو الأحمر - ثم بدأ يغازل إحدى وصيفات سيده من بنات النعاج الفَتِيَات السمينة. وسرعان ما تحولت مزرعة أبي إلى ساحة عاصفة الصحراء، فَقَدَ فيها الخروف المستفحل قرنَهُ المرحوم أمام حشد من أبناء وبنات عمومته. "أرضُنا مُحتلَّةٌ مُنذُ استقلَّتْ // وَغِناها ظَلَّ في أيدي المُغيرينَ غَنائِمْ // والثّرى قُسِّمَ ما بينَ النّواطيرِ قَسائِمْ. // أيُّ نِفطٍ ؟! // صاحِبُ الآبارِ، طُولَ العُمْرِ، // عُريانٌ وَمَقرورٌ وصائِمْ. // داؤنا مِنّا وَفينا // لو صَفَقْنا البابَ // في وَجْهِ خَطايا العَرَبِ الأقحاحِ // لَمْ تَدخُلْ عَلَيْنا مِنْهُ // آثامُ الأعاجِمْ !"، كما يقول شاعرنا العظيم أحمد مطر في قصيدته "القرابين"..
صراحة أن هول المنظر أشغلني أن أستدعي أية قوات تدخل أممية من ذوات الحوافر الزرقاء لفض النزاع بين أبناء العمومة، مكتفياً كبقية علية القوم، بالتنديد والاستنكار..
يبدو أن "آية الله !"؛ خروفي أضمر لي ذلك الموقف.. وبين الحين والآخر تلوح مظاهرات حاشدة خرفانية تندد "الموت لأمريكا" و"الموت لمعارضي الزعيم الأعلى". وتتناقل الصحف أخبار "المعارضة الناطحة"، فتقول "صحيفة جمهوري خرفاني": "الحُكم على نحو 80 شخصا بالسجن لفترات تصل إلى 15 عاماً، والحكم على خمسة منهم بالإعدام لدورهم في الثورة المخملية"، لتقويض وإهانة النظام الخرافي..
فكلما ناديته بـ"أبو القرن الوحيد" يشنف أنفه للأعلى، ويشخر، ويزبد، ويرعد.. وينبش الأرض بحوافره، ثم ينطلق نحوي مسرعاً كالملعون كروز، ليسدد قرنه الوحيد في خاصرتي التي أضنتها سنون قحط الفكر العربي، أو في كرشي الذي منذ حرب تحرير الجولان بدأ ينكمش.. ولما عشت نصف قرن بقضه وقضيضه في أحضان أكاديمية الانبطاح، كنت أسلم قدمي للريح لأتسلق أقرب نخلة أجدها..
تصورْ !.. عندما هبطت من النخلة كنت أنفض الغبار عن ملابسي صراحة لإخفاء انهزامي، متظاهراً أمام النعاج أني كنت أجني حبات رطب شهية، ولم يكن موسمها، بينما كان صاحبنا يتبختر بين صبايا النعاج مزهواً ليربض على منصة نبع الماء الوحيد في مزرعتنا، وهن ينثرن عليه نظرات الإعجاب ويحدقن فيه ملياً، أما أنا فقد كنت أتشاغل عن معمعاتهن الإزدرائية محاولا إقناع نفسي بأنه مجرد ثغاء نعاج..
لا أخفيك سراً تلك الليلة حفظتُ أسماء النجوم، وجميع ألقاب روؤساء الجمهوريات الملكية، وأوسمة أمراء جمهوريات الخذلان والفشل، وعبيد إمارات بني النضير، وتقارير لجان أسلحة الدمار والكذب الشامل.. ودارت في عقلي وساوس وأفكار، منها أن أضم شكواي إلى المجندات الأمريكيات في العراق اللاتي يتعرضن للإغتصاب وسوء المعاملة، وهن كثيرات. يا للخزي ! ، لا ... لا... "وين أَودّي ويهي من الناس"..
وعند صياح أول ديك فجر اليوم التالي، حملت حالي إلى صديق لي اسمه آري مْطَشَّر (الأول أوروبي، والثاني عامي عراقي بسكون الميم وتشديد الشين)، خبير بشؤون الخرفان وله علاقات دولية واسعة في أوساط النظام ذي القرن الواحد. أبحت له ما في حوصلتتي، ويا ليتني لم أبح !، وطلبت منه أن يرفع تظلمي إلى عصبة الدفاع عن حقوق الإنسان، من الحيف الذي أصابني من الحيوان.
فانتفض قائلا: إن هذا الخروف - كما يقال - له أقارب في لندن، وإنك تعرض نفسك للإجتثاث أو للمساءلة والعدالة لسوء معاملة واحد من رعايا إحدى الدول العظمى.
فار دمي، فقلت له: اسمعْ - يا صاحبي - إن هذا الخروف كان يستحوذ على ما عندي من شعير إسترالي الذي لم أذقه في حياتي، ولا يتغذى إلا بالبرسيم الهولندي المعلّب بدلا من الجتّ البلدي، ولا يشرب إلا المياه المعدنية الإيرانية، لأن مياه الفرات "بعد أن غاب القطّ..." أصبحت "بالمسكة المنومة" من إقطاعيات تركيا وسوريا بإمتياز، فانخفضت مناسيبه إلى حد الجفاف في وسط وجنوب البلاد فتصحرت أرضها، مما رفع نسبة تركيز الملوحة ما يضاهي ملوحة البحر، بينما أغنامي لا تشرب إلا من بقايا برك الأمطار، وجيف الأنهار، ولا ترعى سوى الخروب والعاقول، وتشكو الزُّحار، فكيف تتهمني بذلك ؟!.
عندها عدتُ أجرُّ قدمي إلى مزرعتنا، وكنت لا أرى في طريقي إلا بشراً يضعون على رؤوسهم قرون خرفان، متعددة الألوان، مختلفة الأحجام، وأنا أردِّدُ قول المرحوم الرصافي:
بنى وطني مالي أراكم صبَرتُم        =           على نُوَبٍ أعيا الحُصاة َعديدُها
أما آدكم حمل الهوان فإنه          =                 اذا حملته الراسياتُ يؤودها
وإن مياه الأرض تَعْذُب ما جرتْ         =     ويُفْسدها فوق الصعيد ركودها
ومن رام في سوق المعالي تجارة        =       فليس سوى بيض المساعي نقودها

أودعناكم أغاتي
(نشر في مواقع كثيرة)

الدكتور جاسم العبودي Jasim Alubudi
في 23/9/2011

No hay comentarios:

Publicar un comentario